شِدَّة الحَرِّ منْ فَيح جَهَنّمَ فَماذَا أعَـدَدنآ
صفحة 1 من اصل 1
شِدَّة الحَرِّ منْ فَيح جَهَنّمَ فَماذَا أعَـدَدنآ
<blockquote class="postcontent restore ">
[center][size=21]شِدَّة الحَرِّ منْ فَيح جَهَنّمَ فَماذَا أعَـدَدنآ
لَنتقَىَ بَه حَـر يَـوم القَيامَة؟؟؟؟
"
"
عباد الله:
يقول الله تبارك وتعالي : " يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ" ( [1] ) يقول الإمام
السعدي في تفسيره :" يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ " من حر
إلى برد، ومن برد إلى حر، من ليل إلى نهار، ومن نهار إلى ليل، ويديل الأيام
بين عباده ، " ... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
... " ( [2] ) " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ " أي:
لذوي البصائر، والعقول النافذة للأمور المطلوبة منها، كما تنفذ الأبصار
إلى الأمور المشاهدة الحسية. فالبصير ينظر إلى هذه المخلوقات نظر اعتبار
وتفكر وتدبر لما أريد بها ومنها، والمعرض الجاهل نظره إليها نظر غفلة،
بمنزلة نظر البهائم. ( [3] )
ففي كل هذه المظاهر الكونية والتغيرات المناخية والجوية عبرة لنا أي عـِبَر
، ينوع الفصول، ويبدل الليالي والأيام، فليل ونهار، وصيف وشتاء، وخريف
وربيع ، ونحن نعيشُ هذه الأيام مع فصل الصيف موعظةً بليغةً ودروسًا عظيمة،
يشهدُها السميع والبصير، ويُدركها الأعمى والأصمُ ،
نعيشُ هذه الأيام مع واعظِ الصيف وخطيبه، فهل أصغتْ قلوبُنا لموعظتِه؟! وهل
وعينا دروسَه؟! فمَن مِنا الذي لم يؤذهِ حرُ الصيف؟! فأيُّ شيءٍ تعلمناه
من الحر؟ ( [4] )
رأى عمر بن عبد العزيز رحمه الله قومًا في جنازة قد هربوا من حرالشمس إلى
الظل، وتوقوا الغبار، فأبكاه هذا المنظر وحال الإنسان يألف النعيم والبهجة،
حتى إذا وُسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة فأنشد قائلاً:
من كان حين تُصيبُ الشمسُ جبهته أو الغبارُ يخافُ الشَيـن َوالشَعثـا
ويألفُ الظـــلَّ كي تبقى بشاشته : فسوفَ يسكنُ يومـًا راغمًا جدثًا
في ظــــل مَقْفَرَةٍ غبراءَ مظلمةٍ : يُطيلُ تحت الثرى في غمها اللبثـا
تجهـزي بجَهَــازٍ تبلُغيـن بــه : يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثـا
ويا تُرى من أين يأتي الحر في الصيف؟ وما مصدره؟ أجاب على ذلك نبينا محمد
صلي الله عليه وسلم فقال : " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا
بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ،
وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي
بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ
فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا
تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ " ( [5] )
نعم فالصيف موعظة وأي موعظة فإذا كان هذا حر الصيف نََفََسٌ لجهنم، فكيف
بجهنم نفسَها؟! " إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ
تَفُورُ " ( [6] ) وقال سبحانه وتعالي :" إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ
بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً " ( [7] ) وعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّصلي الله عليه وسلم قَالَ : " نَارُكُمْ هَذِهِ
الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ
جَهَنَّمَ " قَالُوا:وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ : " فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ
جُزْءًا كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا ". ( [8] )
فإذا كنا نفر الآن من هذا الحر الدنيوي ، أفلا يكون الفرار من الحر الأكبر هو الشغل الشاغل للعاقل والواعي .
في غزوة تبوك ابتلي الناس بالخروج للجهاد، في زمن عُسرة وشدة من الحرِّ
وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم،
فخرج المؤمنون الصادقون، وقعد الذين في قلوبهم مرض ، قال الله سبحانه
وتعالي فيهم : " فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ
اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ
أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً
وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ". ( [9] )
فحقٌ على العاقل أن يسأل نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا : ماذا أعدّ لاتقاء حرِّ الآخرة ونارها؟
يا من لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من
رؤوس الخلائق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟! روى الإمام مسلم عن
المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : "
تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ
مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ
أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى
حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا " ، قال:
وأشار رسول الله صلي الله عليه وسلم بيده إلى فيه. ( [10]
تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون- ياعباد الله؟!
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ
لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " (
[11] )
لقد تناغمت أجزاءالكون كلها في منظومة واحدة، تُعلن الوحدانية لمن خلقها،
تدين بالطاعة لمن فطرها، فلماذا يتلكأ الإنسان عن الاستجابة؟! لماذا يخالف
الكونَ كلَّه ويتمرد وهو المخلوق الضعيف، فيعصي العظيم الجليل سبحانه،
يتجرأ على ربه، وهو ذرة في هذا الملكوت الطائع؟!
ليتنا نلبي طائعين منيبين مخبتين، ليتنا نَقدُر الله حقَ قدره... الشمس
بحجمها الهائل وحرارتها المحرقة ولهبها المتوهج تسجد بين يدي ربها مذعنة
ذليلة ، فقد روى البخاري عن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ
النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ : "
أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُـولُهُ أَعْلَمُ
قَالَ: " فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ
فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ
مِنْهَا وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ
حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ } ؟ " ( [12] )
لقد استجاب الكون كله لله ، الأرض والسماء، الشجر والدواب ، السهول والجبال
، البحار والأنهار، الكل لبّى مطيعًا مذعنًا خاشعًا خائفًا مسبحًا لله"
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ ... " ( [13] ) " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ
مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ
عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ..." ( [14] ) " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وكثير حق عليه العذاب ..." [15]
عباد الله :
لئن كنا نتقي الحرَّ بأجهزة التكييف والماء البارد والسفر إلى المصائف، وكل
هذه نعمٌ تستوجب الشكرللمنعم ، وإن كان هناك بعض التحفظ علي المصائف وما
يحدث بها من انتهاكات تقلبها نقمة بدلا من النعمة ، المهم هل تأملنا
وتفكرنا كيف نتقي حرَّ ذلك الموقف يوم الحساب ؟ كيف ندفع لفح وسموم حر جهنم
عن أجسادنا ووجوهنا الضعيفة ؟
علينا إذا أن نغتنم صيفنا بالطاعات، ونستزيد فيه من الحسنات، فالأجر يعظُم
مع المشقة ، حذار حذار أن تُقعدنا عن المبادرة إلى الخير، نفوسٌ تعافُ
الحرَّ، وتحبُ الراحة، فنندم يوم لا ينفع الندم .
إن من أعظم ما يُدفع به العذاب وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات
والتخفف من السيئات ، فذاك هو الزاد ، وتلك هي الجُنّة ، فاليوم عمَل ،
وغداً حساب ولاعمل ، فاعمل ولا تمل ، واستبقوا الخيرات ، وأحسنوا:
ـ فلكي تتقي حر يوم القيامة كن واحدا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله
يوم لا ظل إلا ظله ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " سَبْعَةٌ
يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ
الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ
قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ
اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ
ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ
تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ
وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ " ( [16] )
ـ ومما يتقى به حر يوم القيامة أن تنظرمعسرا أو تضع عنه ففي صحيح مسلم أن
النبي صلي الله عليه وسلم قال : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ
عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ " ( [17] )
ـ ومما يتقى به حرذلك اليوم الصيام يقول صلي الله عليه وسلم : " مَنْ صَامَ
يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ
سَبْعِينَ خَرِيفًا " ( [18] ) و يقول أبو الدرداء رضي الله عنه : " صوموا
يومًا شديدًا حره ، لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة
القبور"
ـ وإذا تذكرنا حر يوم النشور ، فلا ننسى فضلالصدقة ، وظلها الوارف لأصحابها
في ذلك اليوم العظيم الذي تدنو فيه الشمس من الخلائق ، فقد روى الإمام
أحمد أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ
صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ يُحْكَمَ بَيْنَ
النَّاسِ " قَالَ يَزِيدُ راوي الحديث أن محدثه أَبُو الْخَيْرِ كَانَ لَا
يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إِلَّا تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَعْكَةً أَوْ
بَصَلَةً أَوْ كَذَا ( [19] ) وقد مرمعنا حديث السبعة الذين يظلهم الله في
ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ومنهم رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله
ما تنفق يمينه .
عباد الله :
أطفئوا حر الصيف بالمواساة والصدقة ، وتواصوا بالبر والمعروف ، فهناك فقراء
ومساكين و مشردون يسكنون الأرصفة والقبور ، وغول الغلاء لم ينج أحد من
مخالبه ، والدال على الخير كفاعله ، وارحموا من في الأرض ، يرحمكم من في
السماء .
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
</blockquote>
[center][size=21]شِدَّة الحَرِّ منْ فَيح جَهَنّمَ فَماذَا أعَـدَدنآ
لَنتقَىَ بَه حَـر يَـوم القَيامَة؟؟؟؟
"
"
عباد الله:
يقول الله تبارك وتعالي : " يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ" ( [1] ) يقول الإمام
السعدي في تفسيره :" يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ " من حر
إلى برد، ومن برد إلى حر، من ليل إلى نهار، ومن نهار إلى ليل، ويديل الأيام
بين عباده ، " ... وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
... " ( [2] ) " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ " أي:
لذوي البصائر، والعقول النافذة للأمور المطلوبة منها، كما تنفذ الأبصار
إلى الأمور المشاهدة الحسية. فالبصير ينظر إلى هذه المخلوقات نظر اعتبار
وتفكر وتدبر لما أريد بها ومنها، والمعرض الجاهل نظره إليها نظر غفلة،
بمنزلة نظر البهائم. ( [3] )
ففي كل هذه المظاهر الكونية والتغيرات المناخية والجوية عبرة لنا أي عـِبَر
، ينوع الفصول، ويبدل الليالي والأيام، فليل ونهار، وصيف وشتاء، وخريف
وربيع ، ونحن نعيشُ هذه الأيام مع فصل الصيف موعظةً بليغةً ودروسًا عظيمة،
يشهدُها السميع والبصير، ويُدركها الأعمى والأصمُ ،
نعيشُ هذه الأيام مع واعظِ الصيف وخطيبه، فهل أصغتْ قلوبُنا لموعظتِه؟! وهل
وعينا دروسَه؟! فمَن مِنا الذي لم يؤذهِ حرُ الصيف؟! فأيُّ شيءٍ تعلمناه
من الحر؟ ( [4] )
رأى عمر بن عبد العزيز رحمه الله قومًا في جنازة قد هربوا من حرالشمس إلى
الظل، وتوقوا الغبار، فأبكاه هذا المنظر وحال الإنسان يألف النعيم والبهجة،
حتى إذا وُسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة فأنشد قائلاً:
من كان حين تُصيبُ الشمسُ جبهته أو الغبارُ يخافُ الشَيـن َوالشَعثـا
ويألفُ الظـــلَّ كي تبقى بشاشته : فسوفَ يسكنُ يومـًا راغمًا جدثًا
في ظــــل مَقْفَرَةٍ غبراءَ مظلمةٍ : يُطيلُ تحت الثرى في غمها اللبثـا
تجهـزي بجَهَــازٍ تبلُغيـن بــه : يا نفس قبل الردى لم تخلقي عبثـا
ويا تُرى من أين يأتي الحر في الصيف؟ وما مصدره؟ أجاب على ذلك نبينا محمد
صلي الله عليه وسلم فقال : " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا
بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ،
وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي
بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ
فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا
تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ " ( [5] )
نعم فالصيف موعظة وأي موعظة فإذا كان هذا حر الصيف نََفََسٌ لجهنم، فكيف
بجهنم نفسَها؟! " إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ
تَفُورُ " ( [6] ) وقال سبحانه وتعالي :" إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ
بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً " ( [7] ) وعَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّصلي الله عليه وسلم قَالَ : " نَارُكُمْ هَذِهِ
الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ
جَهَنَّمَ " قَالُوا:وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ : " فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ
جُزْءًا كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا ". ( [8] )
فإذا كنا نفر الآن من هذا الحر الدنيوي ، أفلا يكون الفرار من الحر الأكبر هو الشغل الشاغل للعاقل والواعي .
في غزوة تبوك ابتلي الناس بالخروج للجهاد، في زمن عُسرة وشدة من الحرِّ
وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم،
فخرج المؤمنون الصادقون، وقعد الذين في قلوبهم مرض ، قال الله سبحانه
وتعالي فيهم : " فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ
اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ
أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً
وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ". ( [9] )
فحقٌ على العاقل أن يسأل نفسه وهو يتقي حرّ الدنيا : ماذا أعدّ لاتقاء حرِّ الآخرة ونارها؟
يا من لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من
رؤوس الخلائق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم؟! روى الإمام مسلم عن
المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : "
تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ
مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ
أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى
حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا " ، قال:
وأشار رسول الله صلي الله عليه وسلم بيده إلى فيه. ( [10]
تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون- ياعباد الله؟!
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ
لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " (
[11] )
لقد تناغمت أجزاءالكون كلها في منظومة واحدة، تُعلن الوحدانية لمن خلقها،
تدين بالطاعة لمن فطرها، فلماذا يتلكأ الإنسان عن الاستجابة؟! لماذا يخالف
الكونَ كلَّه ويتمرد وهو المخلوق الضعيف، فيعصي العظيم الجليل سبحانه،
يتجرأ على ربه، وهو ذرة في هذا الملكوت الطائع؟!
ليتنا نلبي طائعين منيبين مخبتين، ليتنا نَقدُر الله حقَ قدره... الشمس
بحجمها الهائل وحرارتها المحرقة ولهبها المتوهج تسجد بين يدي ربها مذعنة
ذليلة ، فقد روى البخاري عن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ
النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم لِأَبِي ذَرٍّ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ : "
أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ ؟ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُـولُهُ أَعْلَمُ
قَالَ: " فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ
فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلَ
مِنْهَا وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ
حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ } ؟ " ( [12] )
لقد استجاب الكون كله لله ، الأرض والسماء، الشجر والدواب ، السهول والجبال
، البحار والأنهار، الكل لبّى مطيعًا مذعنًا خاشعًا خائفًا مسبحًا لله"
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ ... " ( [13] ) " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ
مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ
عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ..." ( [14] ) " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وكثير حق عليه العذاب ..." [15]
عباد الله :
لئن كنا نتقي الحرَّ بأجهزة التكييف والماء البارد والسفر إلى المصائف، وكل
هذه نعمٌ تستوجب الشكرللمنعم ، وإن كان هناك بعض التحفظ علي المصائف وما
يحدث بها من انتهاكات تقلبها نقمة بدلا من النعمة ، المهم هل تأملنا
وتفكرنا كيف نتقي حرَّ ذلك الموقف يوم الحساب ؟ كيف ندفع لفح وسموم حر جهنم
عن أجسادنا ووجوهنا الضعيفة ؟
علينا إذا أن نغتنم صيفنا بالطاعات، ونستزيد فيه من الحسنات، فالأجر يعظُم
مع المشقة ، حذار حذار أن تُقعدنا عن المبادرة إلى الخير، نفوسٌ تعافُ
الحرَّ، وتحبُ الراحة، فنندم يوم لا ينفع الندم .
إن من أعظم ما يُدفع به العذاب وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات
والتخفف من السيئات ، فذاك هو الزاد ، وتلك هي الجُنّة ، فاليوم عمَل ،
وغداً حساب ولاعمل ، فاعمل ولا تمل ، واستبقوا الخيرات ، وأحسنوا:
ـ فلكي تتقي حر يوم القيامة كن واحدا من السبعة الذين يظلهم الله في ظله
يوم لا ظل إلا ظله ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " سَبْعَةٌ
يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ
الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ
قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ
اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ
ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ
تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ
وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ " ( [16] )
ـ ومما يتقى به حر يوم القيامة أن تنظرمعسرا أو تضع عنه ففي صحيح مسلم أن
النبي صلي الله عليه وسلم قال : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ
عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ " ( [17] )
ـ ومما يتقى به حرذلك اليوم الصيام يقول صلي الله عليه وسلم : " مَنْ صَامَ
يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ
سَبْعِينَ خَرِيفًا " ( [18] ) و يقول أبو الدرداء رضي الله عنه : " صوموا
يومًا شديدًا حره ، لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة
القبور"
ـ وإذا تذكرنا حر يوم النشور ، فلا ننسى فضلالصدقة ، وظلها الوارف لأصحابها
في ذلك اليوم العظيم الذي تدنو فيه الشمس من الخلائق ، فقد روى الإمام
أحمد أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ
صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ يُحْكَمَ بَيْنَ
النَّاسِ " قَالَ يَزِيدُ راوي الحديث أن محدثه أَبُو الْخَيْرِ كَانَ لَا
يُخْطِئُهُ يَوْمٌ إِلَّا تَصَدَّقَ فِيهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَعْكَةً أَوْ
بَصَلَةً أَوْ كَذَا ( [19] ) وقد مرمعنا حديث السبعة الذين يظلهم الله في
ظله يوم لا ظل إلا ظله ، ومنهم رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله
ما تنفق يمينه .
عباد الله :
أطفئوا حر الصيف بالمواساة والصدقة ، وتواصوا بالبر والمعروف ، فهناك فقراء
ومساكين و مشردون يسكنون الأرصفة والقبور ، وغول الغلاء لم ينج أحد من
مخالبه ، والدال على الخير كفاعله ، وارحموا من في الأرض ، يرحمكم من في
السماء .
وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
</blockquote>
[/center] [/size]
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى